يتناول جان بيير فرنان - وهو مؤرخ فرنسى اهتم بالفكر الفلسفى اليونانى - موضوعاتٍ متعددة حول الفكر اليونانى وأصوله، كما يستعرض التحوّلات الفكرية التى حدثت فى فترات مختلفة ابتداءً من القرن الثانى عشر قبل الميلاد وصولاً إلى القرن الخامس الميلادى.
وكعادة الكتاب المتخصصين فى علوم التأريخ والأنثروبولوجيا بدأ جان بيير فرنان بطرح تساؤلٍ واضح: ما هو أصل الفكر العقلانى فى الغرب؟، لينطلق بعدها فى رحلة بحثٍ استندت إلى ثلاث محاور أولها المحور الفكرى المعتمد على الفكر الوضعى والمتجاهل للممارسات الشعائرية والمرويات المقدسة، وثانيها محور تقاسم القوى والذى ينفى ما جاء فى الثيوغنيات التقليدية، بحيث يفترض تكافأ عناصر الكون المشكلة لنظام الطبيعة الكلى.
أما المحور الأخير فهو ذو طابعٍ رياضى بحت تتداخل فيه العلوم الطبيعية كالرياضيات والفيزياء ويقضى هذا المحور بتجريد العالم من صفاته الدينية الخيرة أو الشريرة ويضعه فى زاوية التناظر والارتكاس.
وقد أسهب المؤلف فى سرده لتاريخ الإغريق فى الفصل الأول من الكتاب، ثم انتقل لتفصيل تأويلات اللغة الإغريقية العامية والتى كان ينطق بها الميسينيون، وتحليل الرموز التى كتبت بشكلٍ أو بآخر على موجوداتٍ أثرية ومدونات تشرح طبيعة الحياة الاجتماعية، الاقتصادية، والعسكرية فى مملكة ميسينا، لينتقل بعدها إلى حكاية سقوط المملكة وظهور عصرٍ جديد للحضارة الإغريقية شهد تطوراً فى كل مناحى الحياة مع بروز هوميروس وضمور المفردات الخاصة بالسلطة والألقاب.
ولم يخلُ المشهد من حضور أرسطو وشهادته حول ارتباط أثينا بالحقبة الميسينية والتى استند فيها إلى التراث الأتيكى، كما لم يُغفل الكاتب نشأة المدينة فى التاريخ الإغريقى والتى تعود لما بين القرنين الثامن والسابع وما مرّت به من مراحل مختلفة كان للحياة الاجتماعية فيها شكلٌ مختلف.
أما الفصل الخامس فقد تطرق من خلاله الكتاب إلى وجهة نظر أرسطو المؤمن بالحكمة، قانوناً يسبق العلم الفيزيائى، كما ذهب إلى الفترة من نهاية القرن السابع إلى القرن السادس التى عرفت سلسلة اضطراباتٍ ونزاعاتٍ داخلية، أسفرت، بالنتيجة، عن عملية إصلاح شاملة فى المدينة.
وفى الفصول الثلاثة الأخيرة من الكتاب قدم الكاتب تحليلاً لتنظيم الفضاء الإنسانى وأشكال نشأة الكون وأساطير السيادة، وأخيراً صورة العالم الجديدة، ليختتم بعدها الكتاب بفقرةٍ مهمة يتحدث فيها عن العقل اليونانى فيقول "إنه العقل الذى بشكله الإيجابى والحصيف والمنهجى تمكن من التأثير فى البشر، دون أن يؤثر فى تطوير الطبيعة، فى حدوده كما فى تجديداته، هو ابن المدينة".
ويعد كتاب "أصول الفكر الإغريقى" ثانى كتابٍ يلامس عوالم الإغريق فى مشروع نقل المعارف التابع لهيئة البحرين للثقافة والآثار فقد أصدر المشروع، قبله، بإشراف الدكتور الطاهر لبيب خمسة كتب، هى، بحسب الترتيب الزمنى: "تفكر؛ مدخل أخاذ إلى الفلسفة" للفيلسوف سايمن بلاكبرن، و"لغات الفردوس" للمؤرخ موريس أولندر، و"هل اعتقد الإغريق بأساطيرهم، بحث فى الخيال المكون" لأستاذ الفكر اليونانى "بول فاين، و"التحليل النفسى علماً وعلاجاً وقضية" لعالم التحليل النفسى مصطفى صفوان، و"الزمن أطلالاً" للكاتب الفرنسى مارك أوجيه.