كان الضابط الإسرائيلى يتحدث بـ«عربية شامية»، وكان محافظ السويس «بدوى الخولى» هو الذى يتحدث معه، لكنه أنكر نفسه مجيبًا: «المحافظ غير موجود»، فطلب الضابط منه إبلاغ المحافظ بتسليم المدينة، وعلى المحافظ ومدير الأمن والقائد العسكرى للسويس الحضور فى سيارة عليها علم أبيض، وبصحبتهم جميع المدنيين فى المدينة إلى الاستاد الرياضى، ويتعهد الإسرائيليون بالمحافظة على حياتهم، وإذا لم يتم ذلك فى خلال نصف ساعة فسيتعرض كل سكانها للإبادة.
أبطأ المحافظ فى الرد، فصاح الضابط الإسرائيلى فى الهاتف: «رد يازلمة ليش ما بترد يازلمة؟ («يازلمة» فى اللهجة الشامية تعنى يارجل)، وطبقًا لـ«جمال حماد» فى كتابه «الحرب على الجبهة المصرية» الصادر عن «دار الشروق - القاهرة»: «أوضح الضابط الإسرائيلى فى نهاية إنذاره أنهم على اطلاع تام بأحوال المدينة، فليست بها مياه ولا كهرباء، ولا أحد لديه السيطرة على الجنود بداخلها، والدقيق اشتعلت فيه النار، ولذا فلا مفر من التسليم، واصل المحافظ إنكار نفسه، لكنه رد: «المحافظ مش هيسلم البلد، وأنا لست مسؤولاً عن هذا الموضوع، وعلى كل حال الصليب الأحمر وصل». رد الضابط الإسرائيلى: «ما فيه صليب أحمر، أنت بتغشنى»، واستطرد المحافظ: «وحتى هيئة الأمم وصلت الآن» ثم وضع السماعة.
جرت وقائع هذه القصة فى مثل هذا اليوم «25 أكتوبر 1973»، ويرويها «حماد» فى سياق بحثه للإجابة عن سؤال: «هل كان المحافظ مع تسليم المدينة؟»، خاصة أن هناك جدلا بين أبناء السويس حول ذلك، والشيخ حافظ سلامة يذكر أن المحافظ قرر الاستسلام، راجع كتاب «شموس فى سماء الوطن» لمحمد الشافعى عن «الهيئة العامة لقصور الثقافة- القاهرة»، ويؤكد «حماد» أنه اعتمد على شهادات ومستندات رسمية للوصول إلى الحقيقة، وأظهرت أن اتصال الضابط الإسرائيلى بالمحافظ كان فى الساعة التاسعة صباح يوم 25 أكتوبر، وذلك باتصال سعد الهاكع بالمقدم فتحى غنيم، رئيس قسم «الدفاع المدنى والحريق»، فى مقره بغرفة الدفاع المدنى بـ«ميدان الأربعين»، يبلغه بوصول الدبابات الإسرائيلية إلى مقر شركة «السويس لتصنيع البترول» بالزيتية، وأنه مضطر للتسليم ومعه 300 عامل وموظف من الشركة ومن هيئة قناة السويس، وبعد مرور حوالى 25 دقيقة وصل المحافظ ومدير الأمن إلى غرفة الدفاع المدنى، فأعاد «الهاكع» الاتصال بالغرفة، وعندما رد عليه المقدم فتحى أخبره أن قائد القوة الإسرائيلية التى احتلت الشركة يريد التحدث مع المحافظ أو مدير الأمن، فتناول المحافظ السماعة قائلاً للهاكع، إن المحافظ غير موجود، وعندئذ أخذ الضابط الإسرائيلى السماعة من الهاكع وبدأ الحوار.
يضيف حماد، أن المحافظ اتصل هاتفيا بالعميد «عادل إسلام»، القائد العسكرى للسويس، طالبا منه رأيه كقائد عسكرى، فرد عليه: «أعطنى فرصة للتفكير»، ثم اتصل بالرائد شرطة محمد رفعت شتا، قائد الوحدة اللاسلكية، وكانت حلقة الاتصال الوحيدة بين السويس والقاهرة، وطلب منه إبلاغ المسؤولين بالقاهرة نصًّا: «اليهود أنذرونى بالتسليم فى ظرف نصف ساعة، وإلا فسنضرب بالطيران، ليس عندى مياه ولا ذخيرة ولا أسيطر على أى قوات، ودقيقى يحترق، أوامركم»، وبعد عشرة دقائق أعاد المحافظ الاتصال بالعميد «إسلام» وسأله عن رأيه، فأجاب: «لم أقرر بعد وأنا حاخد رأى الموجودين معى وهم المستشارين بتوعى»، فسأله المحافظ: «ومين هم المستشارين بتوعك؟» فرد: «الحاج حافظ سلامة»، وانفعل المحافظ قائلاً: «إيه قيمة الشيخ حافظ فى هذا الموضوع؟ أنت اتجننت يا عادل؟، أنا عاوز رأيك العسكرى».
جاء رد القاهرة إلى الرائد شتا: «لا تسليم بمعرفة المحافظ، يتم الدفاع عن السويس، وعلى المحافظ ومدير الأمن الانضمام إلى المقاومة الشعبية»، وعندما تلقى المحافظ هذا الرد قال: «خلاص حننضم للمقاومة الشعبية ونموت شهداء»، وقال مدير الأمن اللواء محيى خفاجى: «قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا».
انتشر الحديث عن الإنذار بين أبناء المدينة فأحدث بلبلة، مما دفع المحافظ إلى أن يطلب من المقدم فتحى غنيم التجول بسيارة فى الشوارع ليذيع عبر مكبر صوت أن المحافظ رفض الإنذار الإسرائيلى، وأن المدينة ستقاوم، وعلى كل فرد أن يتخذ لنفسه ساترا خشية أن ينفذ الإسرائيليون تهديدهم بالضرب بالطيران، كما اتصل المحافظ بالشيخ حافظ سلامة وطلب منه أن يذيع على المصلين فى المسجد بعد صلاة الظهر أن المحافظ رفض الإنذار.