وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ
كتبه/ ياسر برهامي*
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمن أركان إيمان كل مؤمن: الإيمان بالقضاء والقدر، وأن الأمر كله لله، وأنه -سبحانه-: (يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ)
(السجدة:5)، وأنه مقلب قلوب العباد يقلبها كيف يشاء، فأيما قلب يريد أن
يقيمه أقامه، وأيما قلب يريد أن يزيغه أزاغه، وأنه خالق كل شيء بقدر، بما
في ذلك أفعال العباد، وأنه له (غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ) (هود:123)، وأن الفضل كله لله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، وأنه هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم.
وترتب
على هذا الإيمان سلوك أساسي وضروري من سلوكيات التزكية الواجبة، والإحسان
مع الله -تعالى-؛ لتخليص النفس الإنسانية من الأمراض الشيطانية الإبليسية
التي عنوانها: "أنا خير منه".
فالذي يشهد أن الله خالق أفعال العباد ومقدرها، لا يشهد مِن نفسه خيرًا إلا مِن الله، فيقول:
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
ويوقن
أنه لو لم يثبته الله؛ لما ثبت هو ولا طائفته ولا أمته، خصوصًا عند المحن،
فلا ينظر إلى نفسه بعين الإعجاب، ورؤية الكمالات الوهمية التي تدفعه إلى
الكبر والحسد، ورؤية عيوب الآخرين أو تمنيها، ونسبة الفضل للنفس واحتقار
الآخرين... وهذه الأمراض هي التي أدت إلى كفر الكفار، ونفاق المنافقين، وهي
التي أدت إلى الحروب وسفك الدماء، والفساد في الأرض وانتهاك الحرمات،
وأصناف الآلام التي نشاهدها ونسمعها كل يوم.
وما
يشهده العالم اليوم مِن أحداث جسام في قلبه النابض المؤثر -في منطقتنا
العربية الإسلامية، موضع الصراع الحضاري ومنطقة صناعة التاريخ، ومنبع
الرسالات
التي غيرت وجه الأرض- لا بد ألا يغيب عن هذه الحقائق الإيمانية التي
ذكرناها أولاً؛ حتى لا نخطئ طريقنا في تقييم الواقع، والتعامل معه.
فلو
تصورنا أن الثورات العربية هي صناعة أمريكية ومؤامرة مخابراتية، وأن أوراق
اللعبة كلها بأيديهم سيكون تصرفنا -كما يتصرف البعض- بضرورة الدوران في
فلكهم، واستحالة مخالفة أوامرهم أو مقاومة مؤامراتهم، مع أننا باليقين لا
يسعنا أن نهمل دورهم وسعيهم لإحداث الفوضى الخلاقة "للشر"، وتجنيد عناصر
الفتن، وصب الأموال والسلاح، والمخدرات والشهوات صبًّا على مجتمعاتنا،
وتوجيه الإعلام نحو أهدافهم.
لكن
شتان بين مَن يوقن بوعد الله الذي يدبِّر الأمر، وأن كيد الكافرين في
ضلال، فيدعو الله مخلصًا له الدين ولو كره الكافرون، وهو آخذ بالأسباب
الممكنة، وبين مَن يستغلقه مشهد قوة البشر وتخطيطهم؛ فيقع فريسة لشياطينهم،
ويبيع دينه بعرض من الدنيا بموالاة أعداء الله ورسله، ومعاداة أمته ووطنه
ويبيع قضاياه، ويسعى لتدميره وتخريبه، بزعم أنه لا يمكنه غير ذلك.
ولو
تصورنا أيضًا -وهذا التصور على نفس الدرجة من الخطورة- أننا الذين صنعنا
هذا الواقع بجهدنا وعملنا، وحركنا القلوب التي ظلت مستكينة عقودًا من
الزمان لا يستطيع أحد زحزحتها عن الخضوع حتى ثارت وانتفضت، وانقضت على
استبداد الظلم، وأن ذلك حققناه بخططنا ودعوتنا وقيادتنا الرشيدة -في
زعمنا-، وحنكتنا السياسية والإدارية، وأن الفضل يرجع إلينا أو إلى الطائفة
الفلانية أو تلك الأخرى، أو إلى إمكانياتنا العظيمة في التخطيط والمتابعة،
لو تصورنا ذلك؛ فسيكون سلوكنا وعملنا على طريق: "أنا خير منه"، على طريق
إبليس الذي ظل يعبد الله حتى صار كالملائكة، ثم كانت عاقبته إلى أن أبى
واستكبر وكان من الكافرين، وختم له بخاتمة السوء مع بوار مكره، وحبوط عمله.
عندها
ستدب أمراض التنافس على الدنيا التي تقتلنا وتهلكنا، وتظهر ذئاب الحرص على
المال والشرف، والرئاسة والسلطة في وسط مجتمعنا الملتزم، الذي يتطلع إليه
الراغبون في حياة جديدة على وجه الأرض.
وأما
إذا أيقنا أن ما جرى كان مِن تدبير مالك الملك، ليس مِن صنع الناس ولا
بقدرتهم، ولا نحن ولا أعداؤنا الذين صنعنا أو نصنع ما يحدث؛ فعند ذلك نعبده
ونتوكل عليه، ونرجو رحمته، ونخاف عذابه، لا ندري ما يفعل بنا ولا بالناس،
ولكن تعلقنا بفضله ورحمته، وإيماننا أن الخير في يديه، وأن مستقبل الأمة
الإسلامية -التي مصر هي قلبها- يقدره مَن وعد محمدًا -صلى الله عليه وسلم-
أنه سيرضيه في أمته ولا يسوؤه.
وأن
دفع الله الناس بعضهم ببعض هو لمنع الفساد في الأرض، وللتفضل على العالمين
-البشرية كلها-، وأن الله الذي يخلق القيادات للأمم، ويصطفيها ويربيها
بنعمه حتى تظهر في الوقت المناسب، وقد يدبر بغيرهم تمهيدًا لهم؛ كما مهد
لداود -عليه السلام- بطالوت، وملأ بني إسرائيل.
فلنسع
إلى تخليص نفوسنا من حظوظها الدنيوية التافهة الزائلة، ولنعمل ليوم لقاء
الله، ولنخلص له عملنا وقولنا، ولنأخذ ما آتانا الله بقوة، على بصيرة وعلم:
بالشرع وبالواقع، دون أحلام اليقظة أو إهمال الأسباب، ولنتعاون بالصدق على
البر والتقوى.
والله المستعان.