الحمد لله عالم السر والجهر، وقاصم الجبابرة بالعز والقهر، محصي قطرات الماء وهو يجري في النهر، وباعث ظلام الليل ينسخه نور الفجر، موفر الثواب للعابدين ومكمل الأجر، العالم بخائنة الأعين وخافية الصدر، شمل برزقه جميع خلقه فلم يترك النمل في الرمل ولا الفرخ في الوكر، أغنى وأفقر وبحكمته وقوع الغنى والفقر، وفضل بعض المخلوقات على بعض حتى أوقات الدهر، ليلة القدر خير من ألف شهر، أحمده حمدا لا منتهى لعدده، وأشكره شكراً يستجلب المزيد من مدده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص في معتقده، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي نبع الماء من بين أصابع يده صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر صاحبه في رخائه وشدائده، وعلى عمر بن الخطاب كهف الإسلام وعضده، وعلى عثمان جامع كتاب الله وموحده، وعلى علي كافي الحروب وشجعانها بمفرده، وعلى آله وأصحابه المحسن كل منهم في عمله ومقصده، وسلم تسليم1.
أما بعد:
فإنه يجب على المؤمن أن يؤمن بكل ما أخبر الله به من الأمور المشاهدة والغيبية، فإن ذلك من صفات المؤمنين، يقول الله -تعالى-: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}2. ومن الأمور الغيبية التي أخبر الله بها الليلة المباركة، ليلة القدر، وما يقدر الله فيها من الأمور التي ستكون خلال سنة كاملة، ويطلق عليه العلماء: التقدير الحولي، فإن ذلك مما يدخل في الإيمان بالقدر؛ وهو ما يذكره العلماء في كتب العقيدة، قال الله –تعالى-: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا}3. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت أو حياة، ورزق ومطر، حتى الحجاج، يقال: يحج فلان، ويحج فلان4.
فيجب علينا أن نؤمن بوجود هذه الليلة، وأن نوقن بها، وبما يقدر الله فيها مما سيكون في جميع السنة، وذلك لأن الله أخبرنا بذلك.
ومن لوازم الإيمان بليلة القدر ما خص الله به تلك الليلة من المميزات الفريدة، والفضائل العديدة، ومن ذلك أن الله يكتب ويقدر فيها ما سيكون من خير وشر خلال سنة كاملة، قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}.
ومن فضائلها أن الله أنزل فيها القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا، وسماها ليلة مباركة؛ فقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}. بل وفي القرآن سورة سميت باسمها؛ قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}5. ففي هذه السورة الكريمة فضائل متعددة لليلة القدر:
الفضيلة الأولى: أن الله أنزل فيها القرآن الذي به هداية البشر وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
الفضيلة الثانية: ما يدل عليه الاستفهام من التفخيم والتعظيم في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}؛ ونظير ذلك قوله تعالى في شأن القيامة: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ}6. وقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}7. وقال في شأن سقر: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ}8. وقال في شأن الأبرار، وأنهم في عليين: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ}9.
الفضيلة الثالثة: أنها خير من ألف شهر.
الفضيلة الرابعة: أن الملائكة تتنزل فيها وهم لا ينزلون إلا بالخير والبركة والرحمة.
الفضيلة الخامسة: أنها سلام لكثرة السلامة فيها من العقاب والعذاب، بما يقوم به العبد من طاعة الله -عز وجل-.
الفضيلة السادسة: أن الله أنزل في فضلها سورة كاملة تتلى إلى يوم القيامة.
وكذلك يجب علينا أن نوقن بما يكون من عظيم الأجر والثواب لمن وفق لقيام هذه الليلة المباركة إيماناً واحتساباً؛ كما جاء في الحديث المتفق عليه: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه). ومعنى قوله: (إيماناً واحتسابًا) يعني إيمانا بالله، وبما أعد الله من الثواب للقائمين فيها، واحتسابا للأجر، وطلبا للثواب. وهذا -أي الأجر والثواب- حاصل لمن علم بها، ومن لم يعلم -بها-؛ لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- لم يشترط العلم بها في حصول هذا الأجر"10.
واختيار ليلة القدر في العشر من رمضان هو اختيار رباني نؤمن بأنه من عند الله، وأن الله أراد إكرام هذه الأمة به، يقول كعب الأحبار: "إن الله -عز وجل- اختار الشهور واختار شهر رمضان، واختار الأيام واختار يوم الجمعة، واختار الليالي واختار ليلة القدر، واختار الساعات واختار ساعة الصلاة والجمعة تكفر ما بينها وبين الجمعة الأخرى وتزيد ثلاثاً، ورمضان يكفر ما بينه وبين رمضان، والحج يكفر ما بينه وبين الحج، والعمرة تكفر ما بينها وبين العمرة، ويموت الرجل بين حسنتين: حسنة قضاها وحسنة ينتظرها، يعني صلاتين، وتصفد الشياطين في رمضان، وتغلق أبواب النار، وتفتح فيه أبواب الجنة، ويقال فيه: يا باغي الخير: هلم رمضان أجمع، وما من ليال أحب إلى الله العمل فيهن من ليالي العشر"11.
وهذه الليلة موجودة في الأمم السابقة، وهي كذلك موجودة في هذه الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ فعن أبي ذر -رضي الله عنه- أنه قال: يا رسول الله أخبرني عن ليلة القدر أهي في رمضان أم في غيره؟ قال: (بل هي في رمضان). قال: تكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبضوا رفعت أم هي إلى يوم القيامة؟ قال: (بل هي إلى يوم القيامة)12. ولكن فضلها وأجرها يختص -والله أعلم- بهذه الأمة؛ كما اختصت هذه الأمة بفضيلة يوم الجمعة وغيرها من الفضائل، ولله الحمد والمنة.
وهذه الليلة في العشر الأواخر من رمضان آكد؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان)13.
وهي في أوتار العشر الأواخر أقرب من الأشفاع؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان)14.
وهي في السبع الأواخر أرجى وأقرب؛ لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رجالا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أرى رؤياكم قد تواطأت –أي اتفقت- في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر)15.
وأقرب أوتار السبع الأواخر ليلة سبع وعشرين؛ لحديث أبي بن كعب-رضي الله عنه- أنه قال: "والله لأعلم أي ليلة هي الليلة التي أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقيامها، هي ليلة سبع وعشرين"16.
ولا تختص ليلة القدر بليلة معينة في جميع الأعوام بل تنتقل فتكون في عام ليلة سبع وعشرين مثلاً، وفي عام آخر ليلة خمس وعشرين تبعا لمشيئة الله وحكمته، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (التمسوها في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة تبقى)17. قال ابن حجر -رحمه الله-: "أرجح الأقوال أنها في وتر من العشر الأخير، وأنها تنتقل"18.
وقد أخفى الله –سبحانه- علمها على العباد رحمة بهم ليكثر عملهم في طلبها في تلك الليالي الفاضلة بالصلاة والذكر والدعاء، فيزدادوا قربة من الله وثواباً، وأخفاها اختبارا لهم أيضاً ليتبين بذلك من كان جاداً في طلبها، حريصاً عليها ممن كان كسلان متهاوناً، فإن من حرص على شيء جد في طلبه، وهان عليه التعب في سبيل الوصول إليه، والظفر به.
إخواني: ليلة القدر يفتح فيها الباب، ويقرب فيها الأحباب، ويسمع الخطاب، ويرد الجواب، ويكتب للعاملين فيها عظيم الأجر، ليلة القدر خير من ألف شهر، فاجتهدوا -رحمكم الله- في طلبها، فهذا أوان الطلب، واحذروا من الغفلة ففي الغفلة العطب19.
فبادر -عبد الله- إلى اغتنام العمل في هذا الشهر الكريم، فعسى أن تستدرك به ما فات من ضياع العمر، وعليك بالحرص على ليلة القدر وتحريها، وسؤال الله أن يوفقك لقيامها:
تولى العمر في سهو وفي لهـو وفي خـسر
فيا ضيعة ما أنفقت في الأيام من عمري
ومالي في الذي ضيعت من عمري من عذر
فما أغفلنا من واجبات الحمد والشكـر
أما قـد خصـنا الله بشـهر أيما شـهر
بشهر أنزل الرحمن فيه أشـرف الذكـر
وهل يشـبه شـهر وفيـه ليلـة القـدر
فكم من خبر صح بما فـيها من الخـير
روينا عن ثقـات أنها تطلـب في الـوتر
فطوبى لامرىء يطلبها في هـذه العشـر
ففيها تنـزل الأمـلاك بالأنـوار والـبر
وقد قال سلام هي حتى مطلـع الفـجر
ألا فـادخـرها إنها من أنفـس الذخـر
فكم من معتق فيها من النار ولا يدري20
اللهم اجعلنا ممن صام الشهر، وأدرك ليلة القدر، وفاز بالثواب الجزيل والأجر الكثير. اللهم اجعلنا من السابقين إلى الخيرات، الفارين من المنكرات، الآمنين في الغرفات، مع الذين أنعمت عليهم ووقيتهم السيئات، اللهم أعذنا من مضلات الفتن، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. اللهم ارزقنا شكر نعمتك وحسن عبادتك، واجعلنا من أهل طاعتك وولايتك، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 مجالس شهر رمضان، صـ(104).
2 (سورة البقرة(3).
3 (سورة الدخان (4)(5).
4 أعلام السنة المنشورة لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة (1/ 195).
5 (سورة القدر(1 -5).
6 (سورة الحاقة (3).
7 سورة القارعة(3).
8 (سورة المدثر(27).
9 (سورة المطففين(19).
10 مجالس شهر رمضان، صـ(105 - 106). بتصرف.
11 زاد المعاد في هدي خير العباد(1/401). الناشر: مؤسسة الرسالة -مكتبة المنار الإسلامية -بيروت– الكويت. الطبعة الرابعة عشر (1407هـ). تحقيق : شعيب الأرناؤوط -عبد القادر الأرناؤوط.
12 رواه أحمد والنسائي.
13 متفق عليه.
14 رواه البخاري.
15 متفق عليه.
16 رواه مسلم.
17 رواه البخاري.
18 فتح الباري شرح صحيح البخاري(4/266). الناشر: دار المعرفة- بيروت (1379هـ).
19 انظر: مجالس شهر رمضان، صـ(107).
20 لطائف المعارف، صـ(207) لابن رجب.