الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فإن الأصل في المزاح الإباحة لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان يمازح أصحابه ويداعبهم، إلا إذا كان فيه كذب أو تجاوز الإنسان فيه وأفرط فإنه حرام أو مكروه في أقل أحواله.
والمزاح هو المداعبة، والدُّعَابَةُ المزاح، وقد دعب يدعب كقطع يقطع فهو دَعَّابٌ بالتشديد، والمُدَاعَبةُ الممازحة1.
وقال صاحب مختار الصحاح: مزح م ز ح: المَزْحُ الدعابة، وبابه قطع، والاسم المُزَاحُ، والمُزَاحَةُ بضم الميم فيهما، وأما المِزاحُ بكسر الميم فهو مصدر مَازَحَهُ وهما يَتَمَازَحَانِ2.
أقوال العلماء في المزاح:
قال أبو حاتم - رحمه الله -: المزاح إذا كان فيه إثم فهو يسود الوجه3.
وعن ابن عَبَّاسٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تُمَارِ أَخَاكَ، ولا تُمَازِحْهُ، ولا تَعِدْهُ مَوْعِدَةً فَتُخْلِفَهُ))4، وفي هذا الحديث النهي عن المزاح والدعابة، وكان - صلى الله عليه وسلم - يداعب الصحابة، ولا يقول إلا حقاً، وأخرج الترمذي من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - رفعه: ((لا تمار أخاك ولا تمازحه)) الحديث، قال المباركفوري - رحمه الله -: " والجمع بينهما أن المنهي عنه ما فيه إفراط، أو مداومة عليه؛ لما فيه من الشغل عن ذكر الله، والتفكر في مهمات الدين، ويؤدي إلى قسوة القلب، والإيذاء، والحقد وسقوط المهابة والوقار، والذي يسلم من ذلك هو المباح، فإن صادف مصلحة مثل: تطييب نفس المخاطب ومؤانسته فهو مستحب.5 قلت: لكن حديث النهي حديث ضعيف ضعفه الألباني - رحمه الله - كما هو موضح.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب من المزاحة، ويترك المراء وإن كان صادقاً))6 وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف.
وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ويل لمن يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له))7 وإسناده حسن، وفي هذا الحديث ذم الكذب في المزاح.
وكثرة المزاح من خوارم المروءة كما قال ابن حجر - رحمه الله -: "من يتعاطى خوارم المروءة ككثرة المزاح"8.
وكذلك المزاح لا ترد به الشهادة ما لم يخرج في المزاح إلى عضة النسب، أو عضة بحر، أو فاحشة، فإذا خرج إلى هذا وأظهره كان مردود الشهادة9.
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يبلغ العبد صريح الإيمان حتى يترك الكذب في المزاح، وحتى يترك المراء وهو محق10)).
وكان مسعر بن كدام - رحمه الله - يقول لابنه:
أني نحلتك يا كدام نصحيتي فاسمع لقول أب عليك شفيق
أما المزاحة والمـراء فدعهما خلقان لا أرضاهما لصديـق
إني بلوتهما فلم أحمدهمــا لمجاور جــاراً ولا لرفيـق
والجهل يزري بالفتى في قومه وعروقه في الناس أي عروق11
قال النووي: اعلم أن المزاح المنهي هو الذي فيه إفراط، ويداوم عليه، فإنه يورث الضحك، وقسوة القلب، ويشغل عن ذكر الله، والفكر في مهمات الدين، ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء، ويورث الأحقاد، ويسقط المهابة والوقار12، وكذا قال الغزالي13، وقال الإمام الصنعاني: والمنهي عنه ما يجلب الوحشة، أو كان بباطل، وأما ما فيه بسط الخلق، وحسن التخاطب، وجبر الخاطر؛ فهو جائز14.
فعن أَنَسَ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - قال: ((إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لَيُخَالِطُنَا حتى يَقُولَ لِأَخٍ لي صَغِيرٍ: يا أَبَا عُمَيْرٍ ما فَعَلَ النُّغَيْرُ؟))15
قال النووي – رحمه الله -: " وفي هذا الحديث فوائد كثيرة جداً منها جواز تكنية من لم يولد له، وتكنية الطفل، وأنه ليس كذباً، وجواز المزاح فيما ليس إثماً"16.
وقال الخطيب البغدادي - رحمه الله -: " إنما يستجاز من المزاح يسيره، ونادره، وطريفه الذي لا يخرج عن حد الأدب، وطريقة العلم، فأما متصله، وفاحشه، وسخيفه، وما أوغر منه الصدور، وجلب الشر؛ فإنه مذموم، وكثرة المزاح والضحك يضع من القدر، ويزيل المروءة"17.
ضوابط المزاح:
1- ألا يكون فيه شيء من الاستهزاء بالدين: فيعد هذا من نواقض الإسلام لقوله - تعالى -: {ولَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وآيَاتِهِ ورَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ}18 يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه"19، ويجعل الإمام ابن قدامة ذلك ردة عن الإسلام، وهذه كالاستهزاء ببعض السنن على سبيل المزح، وببعض الأحكام الشرعية كتقصير الثوب، وإعفاء اللحية، أو الصلاة والصوم وغيرها.
2- ألا يكون إلا صدقاً ولا يكذب: ولاسيما أولئك المعتادين لذكر الطرائف الكاذبة بقصد إضحاك الناس، فقد روى الإمام أحمد في مسـنده أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ويل للذي يحدِّث فيكذب ليُضحِكَ به القوم، ويل له))20، وعن أبي هريرة – رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى لها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار))21، ولا شك أنهم وقعوا في ذلك بسبب الفراغ، وضعف الإيمان، والبعد عن ذكر الله - تعالى -، ومصاحبتهم لجلساء السوء الذين يزينون لهم بعض المحرمات.
3- عدم السخرية والاستهزاء بالآخرين: فتلك محرمة، وتعد من الكبائر يقول - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُـونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ ولا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ ولا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ولا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ ومَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}22، يقول ابن كثير - رحمه الله تعالى -: "المراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم، والاستهزاء بهم، وهذا حرام، ويُعد من صفات المنافقين23، ويقول الطبري: اللمز باليد والعين واللسان والإشارة، والهمز لا يكون إلا باللسان24، وقد روى البيهقي - رحمه الله - في (شعب الإيمان) أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن المستهزئين بالناس لَيُفْـتَحُ لأحدهم باب الجنة فيقال: هلم فيجيء بكربه وغمه، فإذا جاء أُغلق دونه))25 عن الحسن مرسلاً، ويُخشى على المستهزئ أن تعود عليه تلك الخصلة التي يسخر من غيره فيها، فيتصف بها، ويبتلى بفعلها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تُظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك))26، ولقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن السخرية بالمسلمين فقال: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا - ويشير إلى صدره ثلاث مرات -، بِحَسْبِ امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم،كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه))27.
4- ألا يروِّع أخاه: فقد أورد أبو داود في سننه عن ابن أبي ليلى قال: ((حدثنا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يسيرون مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه، ففزع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحل لمسلم أن يروِّع مسلماً))28، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً، ولا جاداً))29.
5- عدم الانهماك والاسترسال والمبالغة والإطالة: ينبغي ألاَّ يداوَم على المزاح؛ لأن الجد سمات المؤمنين، وما المزاح إلا رخصة وفسحة لاستمرار النفس في أداء واجبها، وبعض الناس لا يفرق بين وقت الجد واللعب، ولذلك نبه الغزالي - رحمه الله - بقوله: "من الغلط العظيم أن يتخذ المزاح حرفة"30.
6- أن يُنْزِل الناس منازلهم: فإن العالم والكبير لهم من المهابة والوقار منزلة خاصة، ولأن المزاح قد يفضي إلى سوء الأدب معهما غالباً، فينبغي الابتعاد عن المزاح معهما خشية الإخلال بتوجيه النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث يقول: ((إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم))31، ونقل طاووس عن أبيه قال: (من السنة أن يوقَّر العالِم)32، وكذلك من آداب الإسلام ألاَّ يمزح مع الغريب الذي لا يعرف طبيعة نفس المازح؛ فهذا يؤدي إلى استحقار المازح، والاستخفاف به.
7- ألا يكون فيه غيبة: والغيبة وحليفتها النميمة كلتاهما تصبان في مستنقع الفتنة، ولا يخلو مَنْ كَثُرَ مزاحه من هذه الآفة العظيمة؛ لأن من كثر كلامه كثر سقطه، فهو لا يشعر أنه وقع في الإثم أصلاً؛ لأنه في زعمه إنما يقول في فلان مازحاً غير قاصد ذلك، ولم يعِ تعريف النبي - صلى الله عليه وسلم - للغيبة بقوله: ((ذكرك أخاك بما يكره))33، وقد أورد الترمذي في سننه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول: اتق الله فينا؛ فإنما نحن بك؛ فإن استقمتَ استقمنا، وإن اعوججتَ اعوججنا))34، والغيبة أنواع: منها ما هو في البدن، ومنها ما هو في الخلق وغيرها.
فهذه بعض الضوابط ذكرناها على المزاح عموما، أما المسجد فله حرمته وله مكانته عند المسلمين فلا يجوز فيه رفع الأصوات رفع الصوت في المساجد عن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه تقاضى ابن أبي حدود ديناً كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى ( يا كعب ، قال: لبيك يا رسول الله. قال: ضع من دينك هذا ، وأومأ إليه أي: الشطر. قال: لقد فعلتُ يا رسول الله. قال: قم فاقضه ))35 رواه البخاري ومسلم. ولا غيرها من المخالفات كالكذب وإنشاد الضالة .
فمن تقيد بهذه الضوابط يجوز له أن يمزح لكن لا يتخذ ذلك عادة له، فإن الأحباش كانوا يلعبون بالحراب، والنبي - عليه الصلاة والسلام - ينظر إليهم، ولم ينكر عليهم كما هو ثابت في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ((لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً على باب حجرتي، والحبشة يلعبون في المسجد، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه أنظر إلى لعبهم))36، ولا ينبغي أيضاً أن يشوش على المصلين أو التالين لكتاب الله - تعالى - لأن المساجد إنما بنيت لعبادة الله وذكره، فإذا حدث ما يخل بهذا فهو مما لا يجوز فعله.
والله تبارك وتعالى أعلم، ونسأله أن يؤدبنا بآداب الإسلام، وأن يهدينا إلى الصراط المستقيم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 مختار الصحاح (1/218).
2 مختار الصحاح (1/642).
3 روضة العقلاء (1/79).
4 سنن الترمذي (4/359) رقم (1995)، وقال أبو عِيسَى: هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلا من هذا الْوَجْهِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ عِنْدِي هو ابن بَشِيرٍ؛ وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي برقم(342)؛ وفي ضعيف المشكاة برقم (4892) التحقيق الثاني, وفي ضعيف الجامع الصغير برقم(6274).
5 عون المعبود شرح سنن أبي داود (13/234).
6 مسند أحمد بن حنبل (2/352) رقم (8615) وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده ضعيف.
7 سنن أبي داود في سننه برقم(4990)؛ مسند أحمد بن حنبل برقم(20058) وقال شعيب الأرنؤوط : إسناده حسن؛ وحسنه الألباني في الجامع الصغير وزيادته برقم(13092)؛ وفي صحيح الجامع برقم (7136).
8 فتح الباري لابن حجر (11/40).
9 الأم للإمام الشافعي (6/294).
10 مسند الشاميين (3/ 215) رقم (2115) قال المحقق حمدي بن عبد المجيد السلفي: ورواه أبو نعيم في الحلية (5/176)، وأبو يعلى في المسند الكبير (2895 المطالب العالية)، وفي إسناده سليمان بن أبي داود، ولم أر من ذكره قاله الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (1/92)، وقال كذلك مجمع الزوائد: رواه أبو يعلى في الكبير، وفيه محمد بن عثمان عن سليمان بن داود لم أر من ذكرهم (1/273).
11 الصمت (1/2،9) رقم (391).
12 تحفة الأحوذي (6/ 1،6).
13 فيض القدير (6/421).
14 سبل السلام (1/236).
15 صحيح البخاري (5/227)، رقم (5778).
16 شرح سنن ابن ماجه (1/265).
17 الجامع لأخلاق الراوي للخطيب البغدادي (1/156).
18 سورة التوبة (65-66).
19 مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (7/273).
20 سنن أبي داود في سننه برقم(4990)؛ ومسند أحمد بن حنبل برقم (20058)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن؛ وحسنه الألباني في الجامع الصغير وزيادته برقم (13092)؛ وفي صحيح الجامع برقم (7136).
21 رواه الترمذي في سننه برقم(2314) قال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه؛ وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة برقم(3206).
22 سورة الحجرات (11).
23 تفسير ابن كثير (7/376).
24 انظر جامع البيان (24/597).
25 شعب الإيمان للإمام البيهقي (5/31)، رقم (6757).
26 رواه الترمذي برقم (243)، وقال: حديث حسن؛ وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب برقم(1470).
27 رواه مسلم برقم (4650).
28 رواه أبو داود في سننه برقم (5004)؛ وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2805).
29 رواه أبو داود في سننه برقم (5003)؛ وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2808).
30 إحياء علوم الدين للغزالي (3/129).
31 رواه أبو داود برقم (42و3)؛ وصححه الألباني في الجامع الصغير وزيادته برقم(3962)؛ وفي صحيح الجامع برقم (2199).
32 جامع بيان العلم وفضله (1/ 129) .
33 رواه مسلم برقم (4690).
34 رواه الترمذي في سننه برقم (2407)؛ وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2871).
35 صحيح البخاري (1/174) برقم (445).
36 متفق عليه، صحيح البخاري (1/173) برقم (443)؛ وأخرجه مسلم في صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه رقم (892).