[size=25]
[size=25]عن الريان بن الصلت (1) قال: حضر الرضا {عليه السلام} مجلس المأمون بمرو (2) وقد اجتمع في مجلسه جماعة من علماء أهل العراق وخراسان.
فقال المأمون: أخبروني عن معنى هذه الآية: ( ثُمَّ أوْرَثْنَا الكِتَابَ الذينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنا ) (3) .
فقالت العلماء: أراد الله عزّ وجلّ بذلك الاَُمّة كلها.
فقال المأمون: ما تقول يا أبا الحسن ؟
فقال الرضا {عليه السلام} : لا أقول كما قالوا ولكني أقول: أراد الله عزّ وجلّ بذلك العترة الطاهرة (4) .
فقال المأمون: وكيف عنى العترة من دون الاُمّة ؟
فقال الرضا {عليه السلام }: إنّه لو أراد الاَُمّة لكانت أجمعها في الجنة لقول الله عزّ وجلّ: ( فَمِنْهُم ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْراتِ بِإذنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبيرُ ) (5) ، ثمّ جمعهم كلهم في الجنة فقال عزّ وجلّ : ( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدخُلُونَها يُحَلَّونَ فيها مِنْ أسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ) (6) الآية ، فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم.
فقال المأمون: من العترة الطاهرة ؟
فقال الرضا {عليه السلام} : الذين وصفهم الله في كتابه فقال عزّ وجلّ: ( إنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمْ الرِّجْسَ أهْلَ البيتِ ويُطهِّركُمْ تَطهِيرَاً ) (7) وهم الذين قال رسول الله {صلى الله عليه وآله} : إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، أيها الناس لا تعلِّموهم فإنهم أعلم منكم ( .
قالت العلماء: أخبرنا يا أبا الحسن عن العترة أهم الآل أم غير الآل ؟
فقال الرضا {عليه السلام} : هم الآل .
فقالت العلماء: فهذا رسول الله {صلى الله عليه وآله} يؤثر عنه أنّه قال: أمتي آلي وهؤلاء أصحابه يقولون بالخبر المستفاض الذي لا يمكن دفعه ، (آل محمد أُمته).
فقال أبو الحسن {عليه السلام }: أخبروني فهل تحرم الصدقة على الآل ؟
فقالوا: نعم .
قال: فتحرم على الاَُمّة.
قالوا: لا.
قال: هذا فرق بين الآل والاَمّة ، ويحكم أين يذهب بكم ؟ أضربتم عن الذكر صفحاً أم أنتم قوم مسرفون ؟ أما علمتم أنّه وقعت الوراثة والطهارة على المصطفين المهتدين دون سائرهم ؟
قالوا: ومن أين يا أبا الحسن ؟
فقال من قول الله عزّ وجلّ: ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإبْراهيم وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِما النُبوَّةَ وَالكتابَ فَمِنْهُم مُهْتَدٍ وَكَثيرٌ منهم فَاسِقون ) (9)فصارت وراثة النبوة والكتاب للمهتدين دون الفاسقين ، أما علمتم أن نوحاً حين سأل ربه عزّ وجلّ : ( فَقَالَ رَبِّ إنَّ ابني من أَهْلي وَإنَّ وَعْدَكَ الحقُّ وأنتَ أحكمُ الحاكمين ) (10) ـ وذلك ـ أن الله عزّ وجلّ وعده أن ينجيه وأهله فقال ربّه عزّ وجلّ: ( يا نُوحُ إنَّه ليس من أهلِك إنَّه عملٌ غيرُ صالحٍ فلا تسئَلنِ ما ليس لك بهِ علمٌ إني أَعِظُك أن تكون من الجاهلين ) (11) .
فقال المأمون: هل فضَّل الله العترة على سائر الناس؟
فقال أبو الحسن: إن الله عزّ وجلّ أبان فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه.
فقال له المأمون: وأين ذلك من كتاب الله ؟
فقال له الرضا {عليه السلام} : في قول الله عزّ وجلّ: ( إنَّ اللهَ اصطفى آدَمَ ونُوحاً وَآلَ إبراهيمَ وآل عِمرانَ على العالمين ، ذرِّيَّةً بَعضُها من بعضٍ واللهُ سميعٌ عليم ) (12).
وقال عزّ وجلّ في موضع آخر: ( أم يحسُدُونَ النّاس على ما آتيهُمُ اللهُ من فضلهِ فقد آتينا آلَ إبراهيم الكتابَ والحكمةَ وآتيناهم مُّلكاً عظيماً ) (13) ثمّ ردَّ المخاطبة في أثر هذه إلى سائر المؤمنين فقال: ( يا أيُّها الذين آمنُوا أطيعُوا اللهَ وأطيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الاَمرِ مِنكُم ) (14) يعني الذي قرنهم بالكتاب والحكمة وحسدوا عليهما فقوله عزّ وجلّ: ( أم يحسُدُونَ النّاس على ما آتيهُمُ اللهُ من فضلهِ فقد آتينا آلَ إبراهيم الكتابَ والحكمةَ وآتيناهم مُلكاً عظيماً ) يعني الطاعة للمصطفين الطاهرين فالملك هنا هو الطاعة لهم.
فقالت العلماء: فأخبرنا هل فسَّر الله عزّ وجلّ الاصطفاء في الكتاب؟
فقال الرضا ـ {عليه السلام} ـ : فسَّر الاصطفاء في الظاهر سوى الباطن في اثني عشر موطناً وموضعاً .
فأوّل ذلك قوله عزّ وجلّ: ( وأنذِر عشيرَتَكَ الاَقرَبين ) (15) ورهطك المخلصين هكذا في قراءة أُبي بن كعب وهي ثابتة في مصحف عبدالله بن مسعود، وهذة منزلة رفيعة وفضل عظيم وشرف عالٍ حين عنى الله عزّ وجلّ بذلك الاِنذار فذكره لرسول الله {صلى الله عليه وآله} فهذه واحدة .
والآية الثانية في الاصطفاء قوله عزّ وجلّ: ( إنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البيتِ ويُطهِّركُمْ تَطهِيرَاً ) (16) وهذا الفضل الذي لا يجهله أحد إلاّ معاند ضال لاَنَّه فضل بعد طهارة تنتظر ، فهذه الثانية .
وأمّا الثالثة فحين ميَّز الله الطاهرين من خلقه فأمر نبيه بالمباهلة بهم في آية الابتهال فقال عزّ وجلّ: يا محمد ( فَمَن حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعدِ مَا جاءَك مِنَ العِلمِ فَقُل تَعَالَوا نَدعُ أبنَاءَنَا وأَبنَاءَكُم وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُم وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُم ثُمَّ نَبتَهِل فَنَجعَل لَّعنَةَ اللهِ عَلَى الكَاذِبِينَ ) (17) فبرز النبي {صلى الله عليه وآله }علياً والحسن والحسين وفاطمة ـ {صلوات الله عليهم }ـ وقرن أنفسهم بنفسه فهل تدرون ما معنى قوله: ( وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُم ) ؟
قالت العلماء: عنى به نفسه.
فقال أبو الحسن {عليه السلام }: لقد غلطتم إنما عنى بها علي بن أبي طالب {عليه السلام} ومما يدل على ذلك قول النبي {صلى الله عليه وآله }حين قال: لينتهين بنو وليعة أو لابعثن إليهم رجلاً كنفسي (18) يعني علي بن أبي طالب ـ {عليه السلام }ـ وعنى بالاَبناء الحسن والحسين {عليهما السلام} وعنى بالنساء فاطمة {عليها السلام }فهذه خصوصية لا يتقدمهم فيها أحد ، وفضل لا يلحقهم فيه بشر ، وشرف لا يسبقهم إليه خلق ، إذ جعل نفس علي {عليه السلام} كنفسه، فهذه الثالثة.
وأمّا الرابعة فإخراجه {صلى الله عليه وآله} الناس من مسجده ما خلا العترة حتى تكلّم الناس في ذلك ، وتكلَّم العبّاس فقال: يا رسول الله تركت علياً وأخرجتنا، فقال رسول الله {صلى الله عليه وآله} : ما أنا تركته وأخرجتكم ولكن الله عزّ وجلّ تركه وأخرجكم (19) وفي هذا تبيان قوله {صلى الله عليه وآله} لعلي {عليه السلام }: أنت مني بمنزلة هارون من موسى (20) .
قالت العلماء: وأين هذا من القرآن ؟
قال أبو الحسن : أوجِدُكم في ذلك قرآناً وأقرأه عليكم .
قالوا: هات .
قال: قول الله عزّ وجلّ : ( وَأَوحَينَا إلى مُوسى وَأَخِيهِ أن تَبَوَّءا لِقَومِكُمَا بمِصرَ بُيُوتاً واجعَلُوا بُيُوتَكُم قِبلَةً ) (21) ففي هذه الآية منزلة هارون من موسى وفيها أيضاً منزلة علي {عليه السلام} من رسول الله {صلى الله عليه وآله} ومع هذا دليل واضح في قول رسول الله{ صلى الله عليه وآله} حين قال: ألا إن هذا المسجد لا يحل لجنب إلا لمحمد {صلى الله عليه وآله} (22) .
قالت العلماء: يا أبا الحسن هذا الشرح وهذا البيان لا يوجد إلا عندكم معاشر أهل بيت رسول الله {صلى الله عليه وآله} فقال: ومن ينكر لنا ذلك ورسول الله يقول: أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها (23)؟ ففيما أوضحنا وشرحنا من الفضل والشرف والتقدمة والاصطفاء والطهارة ما لا ينكره إلا معاند والحمد لله عزّ وجلّ على ذلك ، فهذه الرابعة.
والآية الخامسة قول الله عز وجل : ( وَآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ ) (24) خصوصية خصَّهم الله العزيز الجبار بها واصطفاهم على الاَُمة فلما نزلت هذه الآية على رسول الله {صلى الله عليه وآله} قال: ادعوا لي فاطمة ، فدعيت له فقال: يا فاطمة قالت: لبَّيك يا رسول الله فقال: هذه فدك مما هي لم يوجف عليه بالخيل ولا ركاب وهي لي خاصة دون المسلمين وقد جعلتها لك لما أمرني الله تعالى به فخذيها لك ولولدك (25) ، فهذه الخامسة.
والآية السادسة قول الله عزّ وجلّ : ( قُل لاَّ أَسألُكُم عَلَيهِ أَجراً إِلاَّ الموَدَّةَ في القُربَى ) (26) وهذه خصوصية للنبي صلى الله عليه وآله إلى يوم القيامة وخصوصية للآل دون غيرهم وذلك أن الله عزّ وجلّ حكى في ذكر نوح في كتابه: ( ويَا قَوم لا أَسْأَلكُم عَلَيهِ مَالاً إِن أَجريَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم مُلاَقُوا رَبِّهِم وَلكِنّي أَراكُم قَوماً تَجهَلُونَ ) (27) وحكى عز وجل عن هود أنه قال: ( ويَا قَوم لا أَسألُكُم عَلَيهِ أَجراً إِن أَجريَ إِلاَّ عَلَى الَّذي فَطَرَني أَفَلاَ تَعقِلونَ ) (28) وقال عزّ وجلّ لنبيه محمد {صلى الله عليه وآله} : قل: يا محمد ( قُل لاَّ أَسألُكُم عَلَيهِ أَجراً إِلاَّ الموَدَّةَ في القُربَى ) ولم يفرض الله تعالى مودتهم إلا وقد علم أنهم لا يرتدون عن الدين أبداً ولا يرجعون إلى ضلال أبداً.
وأخرى أن يكون الرجل واداً للرجل فيكون بعض أهل بيته عدواً له فلا يسلم له قلب الرجل ، فأحب الله عز وجل أن لا يكون في قلب رسول الله {صلى الله عليه وآله} على المؤمنين شيء ففرض عليهم الله مودة ذوي القربى ، فمن أخذ بها أحبَّ رسولالله {صلى الله عليه وآله} وأحبَّ أهل بيته لم يستطع رسول الله {صلى الله عليه وآله} أن يبغضه ، ومن تركها ولم يأخذ بها وأبغض أهل بيته فعلى رسول الله {صلى الله عليه وآله} أن يبغضه ، لاَنّه قد ترك فريضة من فرائض الله عزّ وجلّ فأي فضيلة وأي شرف يتقدّم هذا أو يدانيه؟ فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية على نبيه {صلى الله عليه وآله} : ( قُل لاَّ أَسألُكُم عَلَيهِ أَجراً إِلاَّ الموَدَّةَ في القُربَى ) (29)، فقام رسول الله {صلى الله عليه وآله} في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أيها الناس إن الله عزّ وجلّ قد فرض لي عليكم فرضاً فهل أنتم مؤدوه ؟ فلم يجبه أحدٌ فقال: يا أيها الناس إنه ليس بذهبٍ ولا فضةٍ ولا مأكولٍ ولا مشروب فقالوا: هات إذاً فتلا عليهم هذه الآية فقالوا: أما هذه فنعم فما وفى بها أكثرهم.
وما بعث الله عزّ وجلّ نبياً إلاّ أوحى إليه أن لا يسأل قومه أجراً لاَن الله عزّ وجلّ يوفيه أجر الاَنبياء ومحمد {صلى الله عليه وآله} فرض الله عزّ وجلّ مودة طاعته ومودة قرابته على أُمّته وأمره أن يجعل أجره فيهم ليؤدوه في قرابته بمعرفة فضلهم الذي أوجب الله عزّ وجلّ لهم فإن المودة إنّما تكون على قدر معرفة الفضل ، فلما أوجب الله تعالى ثَقُل ذلك لثقل وجوب الطاعة فتمسَّك بها قوم قد أخذ الله ميثاقهم على الوفا وعاند أهل الشقاق والنفاق وألحدوا في ذلك فصرفوه عن حده الذي حده الله عزّ وجلّ فقالوا: القرابة هم العرب كلهم وأهل دعوته.
فعلى أي الحالتين كان فقد علمناأن المودة هي القرابة فأقربهم من النبي {صلى الله عليه وآله} أولاهم بالمودة وكلما قربت القرابة كانت المودة .