من يتجول بين أزقة الشام القديمة والقريبة من (الجامع الاموي) تسافر به الذاكرة إلى الزمن البعيد، فيكاد تلغى المسافات والعصور وتطوى سجلات الزمن وتُقلب أوراق التاريخ. ان الآجر الذي بنيت به البيوت القديمة هناك، ما تزال تحتفظ بآثار الماضي العتيق وتنبعث منه رائحة السنين المحروقة، وحكايات طويلة عاشها أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله مع جبابرة العصر الأموي وبطشهم وسفكهم للدماء وايضاً كذبهم وتزويرهم للحقائق. وبين تلكم الازقة يرقد بسلام جثمان طاهر لروح مطمئنة، تشكل أحد الرموز المعطاءة التي خرجتها مدرسة الطف، ورغم بعد السنين ومرور العصور والدهور، فان ذكرى تلك الرموز تلهب المشاعر كلما أقتربنا من شهري محرم وصفر، حكمةٌ ارادها الله سبحانه بأن تكون نبراساً خالداً لبني البشر. انه مرقد السيدة رقية بنت الإمام الحسين (عليه السلام) التي تحمل إحدى الوقائع المؤلمة في نهضة الامام الحسين عليه السلام. ربما هي رديفة لقصة الرضيع الذبيح عطشاناً في حجر أبيه، لكن (رقية) حكاية خاصة لسانها الدموع الساخنة وبراءة الطفولة أمام سلطان ظالم وقاسي القلب. ربما نتمكن من تلخيص قصة رقية سلام الله عليها – اليتيمة الصغيرة- بكلمات: يقظه مفزعة من النوم مصحوبه ببكاء، ثم المطالبة بالأب المقتول، ثم تسكين المشاعر والتهدئة. من اجل عودة الامور الى طبيعتها لا نحتاج سوى الى دقائق من التصرف الحكيم مع تفهّم عميق للمشاعر وجبر للخاطر واساليب اخرى للتهدئة. لكن الذي حصل نقيض المشاعر الانسانية تماماً وعكس الحكمة والعقل والعاطفة. طفلة صغيرة فقدت أباها وهي لا تعي من الحياة الكثير، ثم تطالب به ليحنو عليها ويزيل ما أثقله الظالمون من الضرب والاعتداء والقسوة خلال مسيرة السبي، فيؤتى لها برأسه المدمى بضرب السيوف ويوضع امامها لعلها تسكت وتقنع حسب منهج وتربية يزيد بن معاوية – لعنة الله عليهما- ، ولتكون هذه المناسبة الأليمة وهذا الموقف المثير درساً للآباء والامهات وكل المربين، وهم يتعاملون مع الصغار لاسيما الايتام منهم. المولد والإسم الجميل يبدو من مجمل التواريخ أن السيدة رقية عليها السلام ولدت ما بين عام (57 هـ و58 هـ) في مدينة جدها رسول الله، و وفاتها في (5 صفر 61 هـ) في خربة الشام. بمعنى انها سلام الله عليها توفيت في ذلك الموقف المؤلم وهي بين الثالثة والرابعة من العمر. وقد ورد ذكرها في كتب أرباب المقاتل في واقعة كربلاء: حيث ناداها الإمام الحسين عليه السلام ونطق بإسمها في أكثر من موضع وحادثة، وخصوصاً في الساعات الأخيرة من عمره الشريف عندما أراد أن يودّع أهله وعياله نادى بأعلى صوته: (يا أختاه! يا أم كلثوم، وأنت يا زينب، وأنتِ يا رقية، وأنتِ يا فاطمة، وأنتِ يا رباب، أنظرن إذا أنا قتلت فلا تشققن عليّ جيباً، ولا تخمشن عليّ وجهاً، ولا تقلن عليّ هجراً). أما عن (رُقية) في اللغة، فهو تصغير (راقية) بمعنى المرتفعة والسامية، والتصغير هنا جاء للتحبيب.