ليلة العاشر من محرم ---------------------------- روي عن فخر المخدرات السيدة زينب (عليها السلام) أنها قالت : «لما كانت ليلة عاشر من المحرم خرجت من خيمتي لأتفقد أخي الحسين وأنصاره ، وقد أفرد له خيمة ، فوجدته جالساً وحده ، يناجي ربه ، ويتلو القرآن . فقلت ـ في نفسي ـ : أفي مثل هذه الليلة يترك أخي وحده ؟ والله لأمضين إلى إخوتي وبني عمومتي وأعاتبهم بذلك . فأتيت إلى خيمة العباس ، فسمعت منها همهمة ودمدمة ، فنظرت فيها ، فوجدت بني عمومتي وإخوتي وأولاد إخوتي مجتمعين كالحلقة ، وبينهم العباس بن أمير المؤمنين ، وهو جاث على ركبتيه كالأسد على فريسته ؛ فخطب فيهم خطبة ـ ما سمعتها إلا من الحسين ـ : مشتملة على الحمد والثناء لله والصلاة والسلام على النبي وآله . ثم قال ـ في آخر خطبته ـ : يا إخوتي ! وبني إخوتي ! وبني عمومتي ! إذا كان الصباح فما تقولون ؟ قالوا : الأمر إليك يرجع ، ونحن لا نتعدى لك قولاً . فقال العباس : إن هؤلاء (أعني الأصحاب) قوم غرباء ، والحمل ثقيل لا يقوم إلا بأهله ، فإذا كان الصباح فأول من يبرز إلى القتال أنتم . نحن نقدمهم إلى الموت لئلا يقول الناس : قدموا أصحابهم ، فلما قتلوا عالجوا الموت بأسيافهم ساعة بعد ساعة . فقامت بنو هاشم ، وسلوا سيوفهم في وجه أخي العباس ، وقالوا : نحن على ما أنت عليه ! قالت زينب : فلما رأيت كثرة إجتماعهم ، وشدة عزمهم ، وإظهار شيمتهم ، سكن قلبي وفرحت ، ولكن خنقتني العبرة ، فأردت أن أرجع إلى أخي الحسين وأخبره بذلك ، فسمعت من خيمة حبيب بن مظاهر همهمة ودمدمة ، فمضيت إليها ووقفت بظهرها ، ونظرت فيها ، فوجدت الأصحاب على نحو بني هاشم ، مجتمعين كالحلقة ، بينهم حبيب بن مظاهر ، وهو يقول : «يا اصحابي ! لم جئتم إلى هذا المكان ؟ أوضحوا كلامكم ، رحمكم الله» . فقالوا : أتينا لننصر غريب فاطمة ! فقال لهم : لم طلقتم حلائلكم ؟ قالوا : لذلك . قال حبيب : فإذا كان الصباح فما أنتم قائلون ؟ فقالوا : الرأي رأيك ، لا نتعدى قولاً لك . قال : فإذا صار الصباح فأول من يبرز إلى القتال أنتم ، نحن نقدمهم للقتال ولا نرى هاشمياً مضرجاً بدمه وفينا عرق يضرب ، لئلا يقول الناس : قدموا ساداتهم للقتال ، وبخلوا عليهم بأنفسهم . فهزوا سيوفهم على وجهه ، وقالوا : نحن على ما أنت عليه . قالت زينب : ففرحت من ثباتهم ، ولكن خنقتني العبرة ، فانصرفت عنهم وأنا باكية ، وإذا بأخي الحسين قد عارضني ، فسكنت نفسي ، وتبسمت في وجهه . فقال : أخيه . قلت : لبيك يا أخي . فقال : يا أختاه ! منذ رحلنا من المدينة ما رأيتك متبسمة ، أخبريني : ما سبب تبسمك ؟ فقلت له : يا أخي ! رأيت من فعل بني هاشم والأصحاب كذا وكذا . فقال لي : يا أختاه ! إعلمي أن هؤلاء أصحابي من عالم الذر ، وبهم وعدني جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) . هل تحبين أن تنظري إلى ثبات أقدامهم ؟ فقلت : نعم . فقال : عليك بظهر الخيمة . قالت زينب : فوقفت على ظهر الخيمة ، فنادى أخي الحسين : «إين إخواني وبنو أعمامي» ؟ فقال الحسين : أريد أن أجدد لكم عهداً . فأتى أولاد الحسين وأولاد الحسن ، وأولاد علي وأولاد جعفر وأولاد عقيل ، فأمرهم بالجلوس ، فجلسوا . ثم نادى : أين حبيب بن مظاهر ، أين زهير ، أين نافع بن هلال ؟ أين الأصحاب ؟ فأقبلوا ، وتسابق منهم حبيب بن مظاهر ، وقال : لبيك يا أبا عبد الله ! فأتوا إليه وسيوفهم بأيديهم ، فأمرهم بالجلوس فجلسوا . فخطب فيهم خطبةً بليغة ، ثم قال : «يا أصحابي ! إعملوا أن هؤلاء القوم ليس لهم قصد سوى قتلي وقتل من هو معي ، وأنا أخاف عليكم من القتل ، فأنتم في حل من بيعتي ، ومن أحب منكم الإنصراف فلينصرف في سواد هذا الليل . فعند ذلك قامت بنو هاشم ، وتكلموا بما تكلموا ، وقام الأصحاب وأخذوا يتكلمون بمثل كلامهم . فلما رأى الحسين حسن إقدامهم ، وثبات أقدامهم ، قال : إن كنتم كذلك فارفعوا رؤوسكم ، وانظروا إلى منازلكم في الجنة . فكشف لهم الغطاء ، ورأوا منازلهم وحورهم وقصورهم فيها ، والحور العين ينادين : العجل العجل ! فإنا مشتاقات إليكم . فقاموا بأجمعهم ، وسلوا سيوفهم ، وقالوا : يا أبا عبد الله ! إئذن لنا أن نغير على القوم ، ونقاتلهم حتى يفعل الله بنا وبهم ما يشاء . فقال : إجلسوا رحمكم الله ، وجزاكم الله خيراً . ثم قال : ألا ومن كان في رحله إمرأة فلينصرف بها إلى بني أسد . فقام علي بن مظاهر وقال : ولماذا يا سيدي ؟ فقال : إن نسائي تسبى بعد قتلي ، وأخاف على نسائكم من السبي . فمضى علي بن مظاهر إلى خيمته ، فقامت زوجته إجلالاً له ، فاستقبلته وتبسمت في وجهه . فقال لها : دعيني والتبسم ! فقالت : يا بن مظاهر ! إني سمعت غريب فاطمة ! خطب فيكم وسمعت في آخرها همهمة ودمدمة ، فما علمت ما يقول ؟ قال : يا هذه ! إن الحسين قال لنا : ألا ومن كان في رحله إمرأة فليذهب بها إلى بني عمها ، لأني غداً أقتل ، ونسائي تسبى . فقالت : وما أنت صانع ؟ قال : قومي حتى ألحقك ببني عمك : بني أسد . فقامت ، ونطحت رأسها بعمود الخيمة ، وقالت : «والله ما انصفتني يا بن مظاهر ، أيسرك أن تسبى بنات رسول الله وأنا آمنة من السبي ؟ ! أيسرك أن تسلب زينب إزارها من رأسها وأنا استتر بإزاري ؟ ! أيسرك أن يبيض وجهك عند رسول الله ويسود وجهي عند فاطمة الزهراء ؟ ! والله أنتم تواسون الرجال ، ونحن نواسي النساء» . فرجع علي بن مظاهر إلى الإمام الحسين (عليه السلام) وهو يبكي . فقال له الحسين : ما يبكيك ؟ قال : سيدي . . أبت الأسدية إلا مواساتكم ! ! فبكى الإمام الحسين ، وقال : جزيتم منا خيراً .