السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال الإمام الشاطبي في الموافقات [835] :
ترك الاعتراض على الكبراء محمود، كان المعترض فيه مما يفهم أولا يفهم ، والدليل على ذلك أمور:
أحدها: ما جاء في القرآن الكريم؛ كقصة موسى مع الخضر، واشتراطه عليه أن لا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكرا؛ فكان ما قصه الله تعالى من قوله: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78]، وقول محمد عليه الصلاة والسلام: “يرحم الله موسى، لو صبر حتى يقص علينا من أخبارهما” [1] ، وإن كان إنما تكلم بلسان العلم؛ فإن الخروج عن الشرط يوجب الخروج عن المشروط.
وروى في الأخبار أن الملائكة لما قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} الآية [البقرة: 30]؛ فرد الله عليهم بقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} أرسل الله عليهم نارا فأحرقتهم [2] .
وجاء في أشد من هذا اعتراض إبليس بقوله: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ َلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]؛ فهو الذى كتب له به الشقاء إلى يوم الدين لاعتراضه على الحكيم الخبير، وهو دليل في مسألتنا، وقصة أصحاب البقرة من هذا القبيل أيضًا، حين تعنتوا في السؤال فشدد الله عليهم.
والثاني: ما جاء في الأخبار؛ كحديث: “تعالوا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده” [3] فاعترض في ذلك بعض الصحابة حتى أمرهم عليه الصلاة والسلام بالخروج ولم يكتب لهم شيئًا.
وقصة أم إسماعيل حين نبع لها ماء زمزم، فحوضته ومنعت الماء من السيلان؛ فقال عليه الصلاة والسلام: “لو تركت لكانت زمزم عينا معينا” [4] .
وفى الحديث أنه طُبخ لرسول الله صلى الله عليه وسلم قدر فيها لحم؛ فقال: “ناولني ذراعًا” . قال الراوي [5] : فناولته ذراعًا؛ فقال: “ناولني ذراعًا” . فناولته ذراعًا؛ فقال: “ناولني ذراعًا” . فقلت: يا رسول الله! كم للشاة من ذراع؟ فقال: “والذي نفسي بيده؛ لو سكت لأعطيت أذرعًا ما دعوت” [6].
وحديث علي قال: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى فاطمة من الليل؛ فأيقظنا للصلاة، قال: فجلست وأنا أعرك عيني وأقول: إنَّا والله ما نصلي إلا ما كُتِبَ لنا، إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثها. بعثها، فولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: “وكان الإنسان أكثر شيء جدلًا” [ الكهف : 54] [7]
وحديث: “يا أيها الناس! اتهموا الرأي؛ فإنا كنا يوم أبي جندل ولو نستطيع أن نرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددناه”[8] .
ولما وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنٌ جد سعيد بن المسيب فقال له: “ما اسمك؟” . قال: حزن. قال: “بل أنت سهل” . قال: لا أغير اسماً سماني به أبي. قال سعيد: فما زالت الحزونة فينا حتى اليوم” [9] ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
والثالث: ما عهد بالتجربة من أن الاعتراض على الكبراء قاض بامتناع الفائدة مبعد بين الشيخ والتلميذ، ولا سيما عند الصوفية (!!)؛ فإنه عندهم الداء الأكبر حتى زعم القشيري عنهم أن التوبة منه لا تقبل والزلة لا تقال (!!)، ومن ذلك حكاية الشاب الخديم لأبي يزيد البسطامي؛ إذ كان صائمًا؛ فقال له أبو تراب النخشبي وشقيق البلخي: “كُلْ معنا يا فتى، فقال: أنا صائم. فقال أبو تراب: كل ولك أجر شهر فأبى ، فقال شقيق: كل ولك أجر صوم سنة، فأبى؛ فقال أبو يزيد: دعوا من سقط من عين الله”. فأخذ ذلك الشاب في السرقة وقطعت يده .
وقد قال مالك بن أنس لأسد حين تابع سؤاله: “هذه سليسلة بنت سليسلة، إن أردت هذا؛ فعليك بالعراق”، فهدده بحرمان الفائدة منه بسبب اعتراضه في جوابه، ومثله أيضا كثير لمن بحث عنه.
فالذى تلخص من هذا أن العالم المعلوم بالأمانة والصدق والجري على سنن أهل الفضل والدين والورع إذا سئل عن نازلة فأجاب، أو عرضت له حالة يبعد العهد بمثلها، أو لا تقع من فهم السامع موقعها أن لا يواجه بالاعتراض والنقد، فإن عرض إشكال فالتوقف أولى بالنجاح، وأحرى بإدراك البغية إن شاء الله تعالى.
الهامش : ……………………………………
[1] : رواه الإمام البخاري برقم (122) و الإمام مسلم برقم (2380) و غيرهما .
[2] : قال محقق الكتاب : [ هذا الخبر متكلم فيه ... وحاشا عباد الله المكرمين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون أن يسألوا ربهم كذلك، بل سؤالهم إنما وقع لاستكشاف الحكمة، وإزالة الشبهة التي أثارها في نفوسهم ما فهموه من اسم الخليفة، وما يقتضيه اختلاف طبائعه وتركيب أمزجته، وليس المقصود منه التعجب والتفاخر والاعتراض حتى يضر بعصمتهم كما قيل، ولو كان كذلك؛ لما كان الجواب بهذا التلطف والإقناع المفيد، قال تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} ؛ فقد أقرهم على ما فهموه من الاسم الشريف، وأرشدهم بقصور علمهم إلى ما انطوى تحت سره المنيف، وأظهر لهم من شأنه بتعليم آدم ما لم يعلموه ولن يعلموه؛ فازدادوا بذلك علمًا ويقينًا، وفهموا أنه الصالح للخلافة دونهم؛ فإن خليفة الله في عمارة أرضه وسياسة خلقه وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم يجب أن يكون جامعًا بين التجرد والتعلق، وحافظًا للنسبتين، وذلك لا يكون ملكًا وإنما يكون بشرًا.... الخ ] .
[3] : أخرجه الإمام البخاري برقم (4431) و الإمام مسلم برقم (1637) وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما .
[4] : أخرج القصة الإمام البخاري في “صحيحه” برقم 3362 و 3364 و غيره .
[5] : قال الإمام الألباني في مختصر الشمائل (143) : هو أبو عُبيد مولى للنبي صلى الله عليه وسلم و قد جاء أيضاً بالتاء ( أبو عبيدة )
[6] : صححه الإمام الألباني في مختصر الشمائل برقم (143) صفحة 96 .
[7] : أخرجها الإمام البخاري برقم (1127) و الإمام مسلم برقم (775) .
[8] : أخرجه الإمام البخاري (3181) و غيره عن سهل بن حنيف .
[9] : أخرجه الإمام البخاري برقم (6190) .