عجوز كفيف، تغطى عينيه المغلقتين نظارة شمسية سوداء داكنة تخفى بصيرته النافذة عمن يراه كى يظل وحده متفردا باختراق أعماقهم.
محنى
الظهر محتضنا عوده يداعب دوما أوتاره بحثا عن لحن يهديه لحبيبته الأبدية
مصر، التى يسمها بهية واختصر فيها كل معانى الأمومة التى حرمته منها أقداره
ومعها فقط عرف معنى كلمة الحبيبة.. الشيخ إمام التى أبت منظومة حظه العاثر
أن تكتمل إلا بفيلم هزيل عنه وعن رفيق رحلته نجم هو فيلم «الفاجومى»، الذى
غابت عنه العديد من الحقائق التاريخية وجودة كتابة دور لرجل بحجم الشيخ
إمام مقدمة إياه ضعيفا مهزوزا يبيع ثورته بنقود قليلة، وهو شىء عار تماما
عن الصحة وإعادة لتوزيع أغانى الشيخ إمام بطريقة أقرب ما تكون للدى جى مما
أفقد الكثير من أغانى الفيلم جودتها، والفيلم ظلمه كثيرا بانحياز واضح
لشريك رحلته أحمد فؤاد نجم، والذى سيظل خلافهما معا سرا إلهيا قد تكشفه
صدفة ما أو صحوة لضمير واحد ممن عاصروها. سارت حياته بين التراجيديا
والمغامرة مع كثير من الأحزان والصدف. لِمَ لا؟ فبعد عام من ميلاده بقرية
أم النمرس بمحافظة الجيزة عام 1918 يصاب بمرض الرمد الربيعى ولأنها متلازمة
تاريخية بين الجهل والفقر ينتهى مرضه بفقد بصره وتحتضنه أم بسيطة، عشقته
فقررت أن تكون عينه التى يبصر بها دنياه. ولأنه كان يعد نفسه للغناء، الذى
يعتمد فيه على روح مصر تعلم الموسيقى من خلال غناء نساء قريته فى مواسم
الحج والزفاف.
ولأنه لابد لكل بطل من نبؤة فلابد للشيخ إمام من عراف، والذى كان هو الشيخ محمد رفعت الذى قابله وتنبأ له بمستقبل باهر.
وفى عامه الثانى عشر اصطحبه والده للجمعية السنية الشرعية بحى الأزهر ليلتحق بفريقها للإنشاد الدينى ويتم حفظه للقرآن.
وفصلوه
لأنه كان يعشق سماع تلاوة الشيخ محمد رفعت فى الإذاعة، والتى كانت من
ممنوعات الجمعية ــ الإذاعة ــ ليبدأ إمام بالتعرف على حقيقة أزمة بلده ألا
وهى الجهل.
وليلبى دعوة نداهة القاهرة ويمكث فيها بحارة حوش قدم بحى الغورية حتى وفاته.
ولأن
نداء الموسيقى كان قد حان وقابل إمام الشيخ درويش الحريرى، الذى اكتشف فى
إمام موهبته الموسيقية ليعلمه الموسيقى ،ويبدأ الشيخ فى الدخول لعالم سحر
المغنى رويدا رويدا فعمل مع الشيخ زكريا أحمد قبل أن يستغنى عنه لأنه كان
يغنى ألحانه لأم كلثوم لبعض الناس فتذيع قبل حتى أن تغنيها أم كلثوم وبعدها
تعلم عزف العود على يد كامل الحمصانى وقرر احتراف الغناء.
وكان
لابد من لقاء النصفين اللذين صنعا معا أكبر حالة غنائية عبرت عن نبض فقراء
الوطن العربى أو دود الأرض، كما كان يحب إمام أن يناديهم ففى عام 1962 كان
لقاؤه الأول برفيق كفاحه الشاعر أحمد فؤاد نجم عن طريق سعد الموجى والد
الكاتبة سحر الموجى عندما دعا نجم لبيته بحوش قدم ليلتقى إمام، وتبدأ رحلة
الكفاح، ومعهما ثالثهما محمد على عازف الرق الشهير.
وكانت حنجرة
الشيخ إمام هى التى حملت كلمات نجم لتعبر وبصوتها المشروخ الحنون عن مصر في
«مصر يامة يا بهية»، «كلمتين لمصر» و«الممنوعات»، والتى غناها عام 1976،
كما أكدت لنا المغنية عزة بلبع وكتبها نجم بعد منعهم، من السفر للغناء
للجالية العربية بباريس، وظلوا ممنوعين من السفر حتى منتصف الثمانينيات.
وفى عام 1969 كانت بداية رحلتهما مع المعتقلات، التى صارت سكنا لهم لفترات
طويلة وحتى وفاة السادات، ويموت عبد الناصر الذى أكد نجم فى يومياته
المعروفة باسم «الفاجومى» أنهم عارضوا طريقته فى الحكم، لكنهما لم يختلفا
على حب مصر. لتبدأ مرحلة أكثر قسوة على الثلاثى الغنائى، الذى أرخ لثورة
الطلبة المصريين فغنوا لكل الورد، الذى يتفتح فى جناين مصر العامرة دوما
بالمحبة. ويهاجمون زيارة نيكسون بأغنية «شرفت يا *-تم الحذف. كلمة غير
محترمة لا يسمح بها في هذا المنتدى-*سون بابا»، وعارضوا اتفاقية كامب ديفيد
بشدة، وكتبوا ضدها العديد من الأغانى مثل «يا كارتر يا ندل» و«إحنا معاك»
و«الفول واللحمة». ومع جولة فى فرنسا فى منتصف الثمانينيات دب الخلاف الذى
وصفه الأديب يوسف القعيد، قائلا: «وحدتهم الثورة والفقر وفرقتهم الشهرة
والثروة». ليبدأ خلاف مادى تدخل فيه بعض أبناء الحلال ليفسدوا علاقتهم
خصوصا أن البعض كان يرغب فى إنهاء هذه العلاقة. وأكدت بلبع أنهم لم يكونوا
من المهتمين بالنقود ولو كانوا من طلاب المال لكانوا قد كسبوا كثيرا جدا.
وقبل وفاة الشيخ إمام بعام وفى 1994، وكما أكد لنا الشاعر سيد مهدى أنه وفى
منزل الحج محمد إبراهيم بشارع الألفى وبتدخل من المخرج أسامة الكردى ومدير
الإنتاج فاروق عبدالخالق وبحضور الفنانة فردوس عبدالحميد والمخرج محمد
فاضل وعدد من الأصدقاء، وقالوا لإمام إن هناك مفاجأة وعندما سمع صوت نجم
تصالحا بدون أى كلمة عتاب واحدة، وبعدها بعام وفى 7 يونيو عام 1995 وعن 77
عاما وبعد عام كامل من العزلة فى بيته بحى الغورية توفى الشيخ إمام محمد
أحمد عيسى تاركا لنا 400 أغنية كتبها له بجوار احمد فؤاد نجم كل من سميح
القاسم وفؤاد قاعود ونجيب سرور وسيد حجاب ومصطفى زكى فى أغنية «أدى مصر يا
اللى شككتم فى مصر». وفى عام 2011 ترد ثورة شباب مصر الاعتبار لإمام رافعين
شعارهم أغنيته الشهيرة «الليلة يا جدع هنبات فى الميدان والجدع جدع
والجبان جبان».